الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
قال أحمد: ومن يأكل الخشاف؟ وسئل عن الخطاف فقال: لا أدري، وقال النخعي: أكل الطير حلال إلا الخفاش، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تأكلها العرب اهـ. من المغني. والخشاف هو الخفاش، وقد قدمنا عن مالك وأصحابه جواز أكل جميع أنواع الطير: واستثنى بعضهم من ذلك الوطواط. وفي الببغا والطاوس وجهان للشافعية: قال البغوي وغيره وأصحهما التحريم. وفي العندليب والحمرة لهم أيضًا وجهان: والصحيح إباحتهما، وقال أبو عاصم العبادي: يحرم ملاعب ظله وهو طائر يسبح في الجو مرارًا كأنه ينصب على طائر، وقال أبو عاصم أيضًا: والبوم حرام كالرخم، قال: والضوع بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة حرام على أصح القولين، قال الرافعي: هذا يقتضي أن الضوع غير البوم، قال: لكن في صحاح الجوهري أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام، وقال المفضل: هو ذكر البوم، قال الرافعي: فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم إجراؤه في البوم لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان، قاله النووي: ثم قال: قلت: الأشهر أن الضوع من جنس الهام فلا يلزم اشتراكهما في الحكم. وأما حشرات الطير، كالنحل، والزنابير، والذباب، والبعوض، ونحو ذلك: فأكلها حرام عند الشافعي وأحمد، وأكثر العلماء لأنها مستخبثة طبعًا، والله تعالى يقول: ومن ذلك الجلالة: وهي التي تأكل النجس، وأصلها التي تلتقط الجلة بتثليث الجيم: وهي البعر، والمراد بها عند العلماء: التي تأكل النجاسات من الطير والدواب. ومشهور مذهب الإمام مالك جواز أكل لحم الجلالة مطلقًا، أما لبنها وبولها فنجسان في مشهور مذهبه ما دام النجس باقيًا في جوفها، ويطهر لبنها وبولها عنده إن أمسكت عن أكل النجس، وعلفت علفًا طاهرًا مدة يغلب على الظن فيها عدم بقاء شيء في جوفها من الفضلات النجسة، وكره كثير من العلماء لحم الجلالة ولبنها، وحجتهم حديث ابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبان الجلالة: قال النووي في "شرح المهذب": حديث ابن عباس صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح اهـ. وقال النووي في حد الجلالة: والصحيح الذي عليه الجمهور أدنه لا اعتبار بالكثرة، وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة فجلالة، وإلا فلا، وأكل لحم الجلالة وشرب لبنها مكروه عند الشافعية، والصحيح عندهم أنها كراهة تنزيه، وقيل: كراهة تحريم. وقال ابن قدامة في "المغني": قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في المجرد: هي التي تأكل القذر، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها. وفي بيضها روايتان: وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها، وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد، ولا هو ظاهر كلامه، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرًا في مأكولها ويعفى عن اليسير، وقال الليث إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه، وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان: إحداهما: أنها محرمة. والثانية: أنها مكروهة غير محرمة، وهذا قول الشافعي، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتّى تحبس، ورخص الحسن في لحومها وألبانها. لأن الحيوانات لا تتنجس بأكل النجاسات. بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسًا، ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس اهـ. والظاهر كراهة ركوب الجلالة، وهو مكروه عند الشافعي، وأحمد وعمر وابنه عبد الله، وروي عن ابن عمر مرفوعًا كراهة ركوب الجلالة، أخرجه البيهقي وغيره. والسخلة المرباة بلبن الكلبة حكمها حكم الجلالة فيما يظهر، فيجري فيها ما جرى فيها، والله تعالى أعلم. ومن ذلك الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها فأكثر العلماء على أنها طاهرة، وأن ذلك لا ينجسها، وممن قال بذلك مالك والشافعي وأصحابهما خلافًا للإمام أحمد، وقال ابن قدامة في "المغني" وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات، أو سمدت بها، وقال ابن عقيل يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم. ولا يحكم بتنجيسها، لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة. كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحمًا، ويصير لبنًا. وهذا قول أكثر الفقهاء. منهم أبو حنيفة والشافعي، وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول: مكتل عرة مكتل بر، والعرة: عذرة الناس، ولنا ما روي عن ابن عباس: كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس، ولأنها تتغذى بالنجاسات، وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر، فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات. كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات". أ هـ من المغني بلفظه. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} قوله تعالى: ذكر في هذه الآية الكريمة أنهم سيقولون: لو شاء الله ما أشركنا، وذكر في غير في هذا الموضع أنهم قالوا ذلك بالفعل، كقوله في النحل: ومرادهم أن الله لما كان قادرًا على منعهم من الإشراك، ولم يمنعهم منه أن ذلك دليل على رضاه بشركهم، ولذلك كذبهم هنا بقوله: قوله تعالى: الظاهر في قوله: ما حرم ربكم عليكم، أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا، أو تركا. لأن كلا من ترك الواجب، وفعل الحرام حرام، فالمعنى وصاكم ألا تشركوا، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانًا. وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله: قوله تعالى: نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل. ونهى في سورة الإسراء عن قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه، مع أنه غير واقع في الحال بقوله: وأخذ بعض أهل العلم من هذه الآية منع العزل. لأنه وأد خفي، وحديث جابر: "كنا نعزل والوحي ينزل"، يدل على جوازه، لكن قال جماعة من أهل العلم: إنه لا يجوز عن الحرة إلا بإذنها، ويجوز عن الأمة بغير إذنها، والإملاق: الفقر، وقال بعض أهل بعض العلم: الإملاق الجوع. وحكاه النقاش عن مؤرج، وقيل: الإملاق الإنفاق، يقال: أملق ماله بمعنى أنفقه، وذكر أن عليًا قال لامرأته: أملقي ما شئت من مالك. وحكي هذا القول عن منذر بن سعيد، ذكره القرطبي، وغيره، والصحيح الأول. {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} قوله تعالى: قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم الغاية في قوله: والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ، بدليل قوله تعلى: والبلوغ يكون بعلامات كثيرة، كالإنبات، واحتلام الغلام، وحيض الجارية، وحملها، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمسة عشرة سنة. ومن العلماء من قال: إذا بلغت قامته خمسة أشبار، فقد بلغ، ويروى هذا القول عن علي، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب: ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار والأشد، قال بعض العلماء: هو واحد لا جمع له كالآنك، وهو الرصاص، وقيل: واحده شد كفلس وأفلس، قاله القرطبي وغيره، وعن سيبويه أنه جمع شدة، ومعناه حسن، لأن العرب تقول: بلغ الغلام شدته إلا إن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود، كما قاله الجوهري، وأما أنعم، فليس جمع نعمة، وإنما هو جمع نعم من قولهم بؤس ونعم، قاله القرطبي، وقال أيضًا: وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع، يقال. أتيته شد النهار، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة: عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال الآخر: تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: ومنه قول كعب بن زهير: شد النهار ذراعا عطيل نصف قامت فجاوبها نكد مثاكيل
فقوله: "شد النهار"، يعني وقت ارتفاعه، وهو بدل من اليوم في قوله قبله: يوما يظل به الحرباء مصطخدا كأن ضاحيه بالشمس محلول
فشد النهار بدل من قوله يومًا، بدل بعض من كل، كما أن قوله: "يومًا" بدل من إذا في قوله قبل ذلك: كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل
لأن الزمن المعبر عنه "بإذا" هو بعينه اليوم المذكور في قوله "يومًا يظل" البيت، ونظيره في القرآن، قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} ، وقوله: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل، وقوله: "ذراعا عطيل" خبر كأن في قوله: "كأن أوب ذراعيها" البيت. وقال السدي: الأشد ثلاثون سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: ستون سنة، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا، وإن جازت لغة، كما قال سحيم بن وثيل: أخو خمسين مجتمع أشدى ونجذني مداورة الشؤون
* * * تنبيه وإن كان فاسقًا شريبًا، كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله، قال ابن عاصم المالكي في تحفته: وشارب الخمر إذا ما ثمرا لما يلي من ماله لن يحجرا وصالح ليس يجيد النظرا في المال إن خيف الضياع حجرا
وقال الشافعي ومن وافقه: لا يكون الفاسق العاصي رشيدًا، لأنه لاسفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي، والله تعالى أعلم. أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك، لا حرج عليه لعدم قصده، ولم يذكر هنا عقابًا لمن تعمد ذلك، ولكن توعده بالويل في موضع آخر، ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة، وذلك في قوله: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله، وأحسن عاقبة، وهو قوله تعالى: قوله تعالى: أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه، وهو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} قوله تعالى: أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله، وصرح في موضع آخر أن عبد الله سيسأل عنه يوم القيامة، بقوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} أي عنه. قوله تعالى: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة. لئلا يقولوا: لو أنزل علينا كتاب لعلمنا به، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى، الذين لم يعملوا بكتبهم، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك، وأنه لما أنزل عليهم ما زادهم نزوله إلا نفورًا وبعدًا عن الحق، لاستكبارهم ومكرهم السيىء، وهو قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} . قوله تعالى: قال بعض العلماء: إن هذا الفعل أعني صدف في هذه الآية لازم، ومعناه أعرض عنها، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة. وقال السدي: صدف في هذه الآية متعدية للمفعول، والمفعول محذوف، والمعنى أنه صد غيره عن اتباع آيات الله، والقرآن يدل لقول السدي، لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله صرح به في قوله: وعلى القول الأول فمعنى صدف مستغنى عنه بقوله "كَذَّبَ"، ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن، وهو قول السدي. قوله تعالى: وقوله: وقد يوجه قول ابن عباس وقتادة ومجاهد بأن المراد بتكذيبه، وإعراضه أنه لم يؤمن بها قلبه، ولم تعمل بها جوارحه، ونظيره قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه، وترك العمل بجوارحه، قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن أشار إلى هذا: ولكن كلام السدي أقوى وأظهر والله أعلم اهـ. وإطلاق صدف بمعنى أعرض كثير في كلام العرب، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث: عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل
وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى، ومنه أيضًا قول ابن الرقاع: إذا ذكرن حديثًا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقي صدف
أي معرضات. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قوله تعالى: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة، وذكر ذلك في موضع آخر، وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفًا وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} قوله تعالى: قال بعض العلماء: المراد بالنسك هنا النحر، لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات: هي النحر. فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى، ويدل لهذا قوله تعالى: تم بحمد الله وتوفيقه تفسير سورة الأنعام
|